كانت نُذر تراجع نسبة التصويت لدى العرب واضحة طيلة فترة المعركة الانتخابية، ورجحت عدة استطلاعات أنها لن تتجاوز الخمسين في المئة، لكن في الساعات الأخيرة للتصويت، أمس الثلاثاء، خرج الناس للتصويت ليرفعوا النسبة، وينقذوا القائمتين العربيتين من السقوط أو سقوط قائمة واحدة على الأقل.
رغم ذلك، تراجع التمثيل البرلماني للأحزاب العربية من 13 مقعدا في الكنيست العشرين إلى 10 مقاعد فقط، أي تراجع من 446 ألف صوت للقائمة المشتركة إلى 327 ألف صوت للقائمتين العربيتين، فيما وصلت القوائم العربية الثلاث في انتخابات 2013 إلى نحو 348 ألف صوت.
كانت نُذر التراجع واضحة جدًا، منذ أزمة التناوب في القائمة المشتركة، ومماطلة الجبهة والطيبي في إعطاء التجمع حقه، لتنتهي بعد شهور طويلة بعد مقايضات مالية من الطيبي لإعطاء التجمع مقعده.
وبعد أزمة التناوب، جاءت الانتخابات المحلية لتعطي الأحزاب إنذارًا آخر، بحيث خسرت الأحزاب معركة الانتخابات البلدية في الناصرة لصالح مرشح غير حزبي، بالإضافة لتراجع التمثيل البلدي لحزب مثل التجمع بشكل جدي. التحالفات العائلية التي دخلت فيها الأحزاب عززت من النقمة عليها شعبيا، وقد انعكس ذلك جليا في نتائج الانتخابات أمس. بحيث تحول التصويت في مواقع كثيرة إلى "تصويت ثأري" من الأحزاب.
بعد الانتخابات المحلية، قرر طيبي تفكيك القائمة المشتركة، وسارع إلى الانفصال عنها رسميا، وقدم طلبا للكنيست لذلك. حاول الطيبي ابتزاز مركبات المشتركة الأخرى، ونشر استطلاعات رأي تظهره وكأنه القوة الأولى وبمقدوره حصد 8 – 10 مقاعد لوحده.
هبوط حر
طيلة شهرين شن الطيبي حملة على المشتركة ومركباتها، وهدد بخوض الانتخابات لوحدة مستغلا الاستياء الشعبي من أداء الأحزاب، وجند حوله رؤساء سلطات محلية ومرشحين خسروا الانتخابات المحلية، وأرادوا الانتقام سياسيا من الأحزاب في الانتخابات البرلمانية.
حرض الطيبي على المشتركة ومركباتها أي الأحزاب، وهبط بالخطاب السياسي إلى حدوده الدنيا، وحول الخطاب الوطني والعمل البرلماني إلى خطاب خدماتي مجرد، وتصرف بأسلوب يعتمد على النجومية التلفزيونية، دون أن يراعي خطورة خطوته بتفكيك المشتركة وهبوط الخطاب السياسي. لم يتوقع أن ذلك سيرتد عليه آجلا أم عاجلا، بحيث حصل على مقعدين له، هو وصهره، في التحالف مع الجبهة.
من الحديث عن 8 و10 مقاعد هبط الطيبي هبوطا حرا إلى مقعدين على أرض الواقع، لكنه لم يكن من نصيبه لوحده، بل أخذ معه باقي الأحزاب ومستوى العمل والخطاب السياسي. ظهر ذلك بنتائج الانتخابات أمس.
أزمة ثقة عميقة
زاد هذا السلوك الأناني الابتزازي من حالة الاستياء الشعبية من الأحزاب، وزادت حملة المقاطعة الفيسبوكية من حالة الاستياء والإحباط وعدم الثقة، وزاد من حالة اللاتسييس في أوساط العرب، وانعكس سلوك الطيبي تحديدا بقضية التناوب وتفكيك المشتركة، أمس بانخفاض نسب التصويت في بلدات كثيرة، وأتاح للأحزاب الصهيونية لـ"تسرح وتمرح" في البلدات العربية، بعدما تم تطهير البلدات العربية منها بعد الانتفاضة الثانية مطلع الألفية الحالية.
أزمة التناوب، الانتخابات المحلية وتفكيك الطيبي للمشتركة، خلقت قنبلة موقوتة كادت أن تنفجر أمس بوجه الأحزاب العربية، وكان ذلك سيشكل انتحارا سياسيا لا تحمد عقباه، وسيدخل السياسة العربية إلى حالة عدمية وعودة قوية للأحزاب الصهيونية ومظاهر التأسرل.
تراجع الثقة بالأحزاب ليس قدرا أو منزلا، بل هي حالة تراكمية نتيجة سلوكيات الأحزاب وعنجهيتها في أحيان كثيرة والذهنية الوعظية تجاه الشعب، من جهة؛ ومن جهة أخرى، هبوط السقف والخطاب السياسيين في الأعوام الأخيرة بعد تشكيل المشتركة وترؤس أيمن عودة لها، الذي أعاد الخطاب السياسي العربي إلى تسعينيات القرن الماضي، والحديث عن كتلة مانعة وتحالف ديمقراطي مع اليسار الصهيوني وغيرها، ورفع سقف التوقعات من المشتركة برلمانيا كأن العرب يعيشون في دولة طبيعية هي دولتهم، وأن اللعبة البرلمانية هي فن الممكن، ليسن "قانون القومية" ويشكل صفعة قوية للمشتركة تحديدا، التي فشلت في إحباطه وتأخرت في التحرك ضده.
حجم الأوهام حول المشتركة بحجم خيبة الآمال...
خطر الأسرلة يعود بقوة
تراجع نسبة التصويت عند العرب ليس مؤشرا على زيادة الوعي الوطني أو عدم ثقة بالعمل البرلماني، بل بالعكس، فقد شهدت البلدات العربية بالتوازي مع ذلك عودة الأحزاب الصهيونية، وحصول حزب مثل "ميرتس" على 2500 صوت في مدينة مثل الطيرة (300 صوت تقريبًا في 2015، أي زيادة بما يقارب 8 أضعاف)، كانت الصدارة فيها دوما للأحزاب الوطنية، إذ حصل تحالف الموحدة والتجمع على 3 آلاف صوت أو أكثر بقليل، والجبهة والطيبي على 4 آلاف وأكثر.
تراجع نسبة التصويت في موازاة الارتفاع في التصويت للأحزاب الصهيونية يعكس خللا حقيقيا في السياسة العربية، ويعكس تراجعا كبيرا في التسييس والوعي الوطني وتراجع الثقة بالأحزاب العربية، التي كان من المفترض أن تدأب طيلة أيام السنة على تسييس الرأي العام وزيادة الوعي الوطني تحديدا لدى الشرائح الشابة، وأن تستغل التشريعات العنصرية وآخرها "قانون القومية" لتشكل رافعة جدية للتسييس.
كما يعكس هذا النمط من التصويت، تراجع نسبة التصويت وتعزيز الأحزاب الصهيونية، إلى حالة من الرفاهية المقلقة وغير المبررة لدى شرائح واسعة يمكن تسميتها بالطبقة الوسطى، التي بات همها الحفاظ على مستوى معيشة مرتفع، والابتعاد قدر الإمكان عن القضايا السياسية والوطنية.
هبوط السقف السياسي بعد نجاح المشتركة، إذا ما استثنينا التجمع، والتركيز على القضايا المدنية والخدماتية، والاكتفاء بالشعارات والوعظ السياسي الوطني دون العمل على تعزيز الهوية الوطنية، عززت بشكل مباشر أو غير مباشر من النزعات الفردانية والعزوف عن السياسة والعمل الوطني، حتى لا نسميها تعزيز نزعات الأسرلة.
وإذا ما جمعنا العوامل هذه، فهي تؤشر إلى ارتفاع في مستويات الأسرلة وفي حالة اللاتسيس، لكن الضربة القاصمة جاءت مع تفكيك المشتركة وحرب "النجوم" التي أطلقها الطيبي، وحربه على مركبات المشتركة، أشعرت العربي بأن لا قيادة حقيقية له، وأن العمل السياسي تحول إلى نجومي من جهة، وحزبي احترافي من جهة ثانية، لا يعكس التحولات المجتمعية الحاصلة، وتغير شكل العمل السياسي التقليدي.
هذه مسائل تستحق الدراسة المعمقة في الأحزاب وخارجها، لأن استعادة الثقة بالعمل السياسي والتسييس والوعي والهوية الوطنيين، تتطلب معالجتها سنوات، وفقط مؤسسات وطنية مثل الأحزاب والمجتمع المدني والصحافة بمقدورها معالجتها.
اللاتسييس وتراجع الوعي الوطني والنجومية السياسية وصفة أكيدة للأسرلة..
التعليقات